متلازمة الحنين الى الماضي : النوستالجيا

متلازمة الحنين الى الماضي : النوستالجيا

 

غالباً ما يحنُّ كثير منّا إلى ذكرياتٍ عاشها في الماضي أو أشخاصٍ رسم معهم أحد فصول حياته، فيستذكرهم بين الفينة والأخرى، وهو ما يعرف بمتلازمة النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي. هذا الحنين إلى الماضي قد يتحوّل إلى مرضٍ وحالة من الاكتئاب إذا ما أخذ الإنسان في الانغماس فيه بكثرة، والتي تصيب عدداً كبيراً من الأشخاص حول العالم

١- ما هي متلازمة النوستالجيا ؟

النوستالجيا مصطلح يُستخدم للتعبير عن الحنين إلى الماضي، أو العيش في الماضي، وهي متلازمة تصيب الإنسان الذي يحن دائماً إلى الماضي والعيش مع الذكريات، بحيث يصبح الشخص المصاب بهذه المتلازمة يرى أن الماضي جميل جداً بكل ما فيه من أحداث أو علاقات، ويرى أن الماضي كان أسهل وأبسط وأكثر متعة

وبالموازاة مع ذلك، تتكوّن لدى الشخص المصاب رهبة وخوفٌ شديدان من الحاضر أو المستقبل. اختلف العلماء حول حالة النوستالجيا التي يمر بها كثيرون، فهناك من صنّفها على أنها مرض، وهناك من اعتبرها حالة من حالات الاكتئاب

٢- متى ظهرت النوستالجيا ؟

كان ظهور النوستالجيا الأول في القرنين الـ18 والـ19، وكانت تعني في ذلك الوقت الحنين إلى الوطن، والانتماء الحقيقي له، والنوستالجيا كلمة يونانية الأصل، وتعني العودة إلى الوطن الأم

تم اكتشاف متلازمة النوستالجيا لأوّل مرة من قبل طالب الطب يوهانس هوفر، وذلك بعد أن لاحظ أن مجموعة من العمال المأجورين السويسريين المغتربين عن أوطانهم كانت تظهر عليهم أعراض مرضية مشتركة مثل: الأرق وعدم انتظام ضربات القلب، وعسر الهضم، وتبين فيما بعد، أن من أهم أسبابها الشوق والحنين إلى أوطانهم

صُنفت النوستالجيا في ذلك الوقت، على أنها ثاني أخطر مرض من الأمراض العقلية بعد الهستيريا. وفي محاولات علاجها، عام 1790، تم اللجوء إلى العلاج بالألم والإرهاب، حيث يتم تخويف المرضى وتهديدهم بالضرب، أو دفنهم أحياء

٣- أسباب متلازمة النوستالجيا

يُمكن أن يلجأ الإنسان إلى متلازمة النوستالجيا لعدة أسباب، أبرزها ما يلي

يلجأ الإنسان إلى النوستالجيا؛ حتى يُذكّر نفسه بالحالة التي كان عليها في الماضي، والحالة التي أصبح عليها الآن، ليقوم بعدها بالمقارنة، ويحدّد بشكلٍ واضحٍ الأمور التي تغيّرت في حياته سواء كان التغيير إيجابياً أم سلبياً، والغرض من ذلك هو التغيير

كما يلجأ الإنسان إلى النوستالجيا؛ حتى يهرب من واقعه المؤلم، فعندما يتعرض لحادث أو أمر حزين مؤلم، فإنه يشعر بالراحة عند التفكير في الماضي ويشعر بالأمان والاطمئنان النفسي

٤- أعراض متلازمة النوستالجيا

يظهر كثير من الأعراض الخطيرة على متلازمة النوستالجيا، ولعلّ أهمها ما يلي

الإغماء

الجنون

التفكير بكثرة في الانتحار

فقدان الشهية

الأوهام والتخيل

الهلوسة

إنكار الواقع

إدمان تذكر الماضي

الإكثار من الانغماس في أحلام اليقظة

٥- النوستالجيا قد تتحوّل إلى إدمان

عندما نستخدم النوستالجيا لبرهة من الوقت يكون ذلك ممتعاً، لكن عندما يلجأ كثير منّا الى العيش في الماضي والانغماس فيه، فإن النوستالجيا ستتحوّل في هذه الحالة إلى إدمان، وسيتسبّب في إصابة المدمن بها بأحلام اليقظة، وإنكار شيء حدث في الماضي، هذا الأمر من شأنه أن يؤدي إلى إعاقة النمو والتطور، ويصبح الشخص غير قادر على اتخاذ أي قرار في حياته، أو أن يتطور بشكل سليم في الحياة

٦- كيف يمكن التخفيف من متلازمة النوستالجيا ؟

يمكن التخفيف من النوستالجيا، من خلال وضع الأمور في مكانها الصحيح، والرضا بالواقع والماضي كما هما، سواء كانا جيدين أم سيئين، وضرورة الحفاظ على العلاقات الطيبة، ونسيان الذكريات والصراعات السيئة التي حدثت في الماضي، وشغل النفس بالأمور التي نحبها

 

« مضت سنين طويلة.. لا أذكرها.. غبت فيها عني.. ولا زلت انتظرني.. اشتقت جدا إلي.. وإلى أحاديثي وهمومي الصغيرة.. وأمنياتي الكبيرة.. أفتقدني منذ أن كبرت ! »

 

كلمات قليلة لكنها عميقة تثير الشجون والذكريات، عبر فيها كاتبها عن حنينه إلى الماضي. هي ذكريات تغنى فيها الشعراء والكتاب، ووجدت كثير من أصداء القبول والامتنان، وأثارت في النفوس مشاعر مختلطة ما بين السعادة والألم والشجون والحزن وأحيانا الندم. هي حنين إلى الأشخاص الذين فقدناهم، إلى الأماكن الخالية، إلى أيام الطفولة البريئة، إلى أصدقاء الزمن الجميل، إلى العلاقات الاجتماعية القوية، إلى بساطة الحياة، وإلى التفاصيل الصغيرة، وربما حنين إلى أنفسنا: شكلنا وملامحنا وأعمارنا وأحلامنا التي طوتها دفاتر الأيام. ومن جهة أخرى قد تكون انعكاسا للخوف من سرعة مرور الأيام والأحداث، أو رغبة في العودة إلى هذه الأزمان والأماكن والمراحل فنعيشها كما يجب أن تكون. فهل كان كل شيء جيدا؟ ما الذي يجعلنا نشعر بجماليات الأشياء بعد انقضائها أكثر من استشعارها أثناء اللحظة وفي زمانها ومكانها؟

إن الذاكرة ليست شريط فيديو مصور يسجل بدقة ما جرى وكان، والناس يتباينون في طريقة تقييمهم للماضي؛ فالبعض قد يراه جميلا، والبعض الآخر قد يجد في استرجاعه الألم والحرمان، كل تبعا لتجاربه الشخصية، والحقيقة أننا نمارس في استرجاعنا لذكريات الماضي بعض أخطاء التفكير ومنها: التفكير الانتقائي بانتقاء الإيجابيات وتجاهل السلبيات، والمبالغة، والتعميم الزائد، والتفكير القطبي (الكل أو لا شيء، أبيض أو أسود)، والتفكير العاطفي (تفسير الأمور وفقا لما يرغبه الفرد ويرتاح إليه)، أو استيعاب شيئا وتصويره اعتمادا على جزء منه وإهمال الباقي. يقول مارسيل بروست : إن تذكر أشياء من الماضي ليس بالضرورة أن تكون كتذكر الأشياء كما كانت عليه في وقت مضى

في الغالب يشعر الفرد بالأمان النفسي والراحة والاطمئنان بالعيش في الماضي الذي يألف أحداثه وأشخاصه، بينما قد يشعر بالخوف أو التوجس من المستقبل فيحكم عليه أحكاما خاطئة نتيجة تصورات ذهنية لحوادث مؤلمة لم تقع له وإنما وقعت لغيره؛ فيتصور أنه لا بد أن سيواجهها يوما ما. والغريب أنه لا يعيش اللحظة الراهنة فتنسحب منه لحظات السعادة من غير أن يستشعرها وتمر سريعا. يقول آلي لوندي: إنه لأمر غريب كيف أننا نتمسك بالأشياء التي حدثت في الماضي في حين لا زلنا ننتظر ماذا سيحدث بالمستقبل

لعل التغيرات البطيئة قديما خاصة في المظاهر الاجتماعية أتاحت للناس معالجة المشكلات بسهولة مقارنة بحجم التغيرات المتسارعة في هذا العصر والذي نجم عنها ظاهرة الاغتراب النفسي وصعوبة التكيف خاصة لدى كبار السن. أحيانا نشعر بالحنين لأماكن لم نزرها وظروف لم نعشها، ربما شاهدناها في فيلم قديم، أو عايشناها من خلال سماع أغنية طويلة، أو رواية طويلة جسدت آمالنا وأحلامنا، يعبر عنها كارسون مكولارس بقوله: يمتلك البعض الكثير من الحنين للأماكن التي لا يعرفونها مطلقاً

يشير علماء النفس أن النولستوجيا هي آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة، كما أن الحنين للماضي مهم للصحة العقلية والنفسية، وله فوائد جسدية وعاطفية؛ فهو أسلوب ناجح في محاربة الاكتئاب وقتيا ويعزز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعي. وقد أثبت العلم الحديث الشعور النوستالجي باستخدام صورة الرنين المغناطيسي للدماغ

لا شك أن الحنين إلى الماضي بتفاصيله شيء جميل ويمدنا بسعادة وراحة، ولكن يكمن الخطورة في إدمان استرجاع ذكريات الماضي؛ وفي المبالغة باستخدام الحيل الدفاعية النفسية مثل النكوص (ممارسة سلوكيات لا تتناسب مع العمر) وأحلام اليقظة، والإنكار (مثل: إنكار موت عزيز أو إنكار التعرض لتجربة مريرة). إن اعتماد الفرد على الوسائل النفسية الدفاعية للتخلص من التوتر والألم النفسي وفي البحث عن السعادة بشكل متكرر ودائم، يعيق نموه فيصبح الانسحاب من الحاضر أسلوب حياة، ويصبح الفرد عاجزا عن اتخاذ القرارات الصحيحة كلما واجهته تحديات

برترناد راسل يقول في كتابه الفوز بالسعادة: السعادة ليست هروبا من الواقع ومآسيه إنما التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا…. والسعادة هي في الحياة الواقعية لأن الإفراط في التفكير بمستقبلنا يهدم لذة الاستمتاع بحاضرنا. ويقول حسين أمين في كتابه كيمياء السعادة, إن جهل الغالبية بالتاريخ يسهل على الناس تزييف الماضي فلو عدنا إلى الماضي بملابساته الحقيقة بعد تقديسه وتفخيمه لأصابتنا خيبة أمل عظيمة

علماء النفس وجدوا أن معظم العقلانيين هم الأكثر اطمئنانا، فالناس الذين يفهمون الأشياء بعدها دائما تحدث إلى الأفضل هم الأكثر سعادة، إن الحاضر هو الزمن الوحيد الذي نملك مفاتيح سعادته لأننا نعيش فيه، والسعادة مرتبطة بطبيعة الفرد وتكوينه ومزاجه وشخصيته ومقدار رضاه عن نفسه، وفي القدرة على الاستمتاع بالمشاعر العميقة والشعور بالامتنان والشكر، والانتماء لهذه الحياة، وإدراك الواقع بفعالية من خلال إيقاظ الغايات النبيلة والإنسانية وليس للأحداث الخارجية إلا تأثيرا غير مباشر. ومن أجمل ما قال إبراهيم الفقي: (إن كل يوم تعيشه هو نعمة من الله فلا تضيعه بالقلق من المستقبل أو الحسرة على الماضي)

ربما حياتنا في الوقت الحاضر ليست جيدة بالقدر الكافي، لكن بإمكاننا العودة إلى ممارسة النشاطات التي لطالما أحببناها وفضلناها، وتوطيد العلاقات الاجتماعية التي بتنا نشكو ضعفها، ودائما هناك فرصة جديدة هي الآن، والحياة بها الكثير مما يستحق الاكتشاف، يجسدها قول جميل لشخص عميق: (إن الحياة ممتلئة جدا للدرجة التي لن تكون في يوم من الأيام أحطت فيها ولو بمجال واحد فقط، وأعمارنا قصيرة جدا على هذه الحياة المليئة بالجمال)

 

إقرأ أيضاً

كيف أتصالح مع الماضي وهو مليء بالأخطاء والآلام ؟

 

سباء النعامنه / د.سماح عليان

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *