نفسك الحقيقية ونفسك المزيفة : هام جداً

نفسك الحقيقية ونفسك المزيفة : هام جداً

 

كل إنسان يُولد وهو يحمل في داخله احتياجات نفسية بسيطة للغاية. احتياج إلى القبول، إلى الحب، إلى أن يُهتم به، إلى الاحترام، إلى أن يُرى، أن يُحسّ، أن يُقدّر، أن يمتلك الحق في الرفض، وغيرها من الاحتياجات الأساسية. وتعتبر الوظيفة الرئيسية للأب والأم خلال عملية التربية هي تلبية هذه الاحتياجات بالشكل المناسب وبالقدر الكافي، كي ينمو الطفل نفسيًا بشكل سليم وتكتمل صحته النفسية الطبيعية

ولكن في الواقع، هذا ليس ما يحدث دائمًا

غالبًا ما يكتشف الطفل خلال فترة التربية أنه لكي يتم تلبية احتياجاته الأساسية، يجب أن يكون هناك مقابل. بمعنى « اسمع الكلام لكي أحبك »، « اشرب اللبن لتصبح ناجحًا »، « لا تقل لا حتى يحبك الله ». بالإضافة إلى الكثير من الرسائل التي تصله من خلال تصرفات وسلوكيات ونظرات الوالدين (وأحيانًا من خلال العقاب الجسدي)، فيتحول الحب إلى حب مشروط، والقبول إلى قبول مشروط، والاحترام إلى احترام مشروط. وهكذا، يصبح كل شيء مشروطًا، وكل شيء بمقابل

ماذا يفعل الطفل في هذه الحالة كي يحصل على الحب والقبول والاهتمام ؟

يضطر إلى فعل شيء صعب جدًا

يضطر إلى دفع الثمن

يضطر إلى القبول بالشروط

يضطر إلى التخلي عن ذاته الحقيقية

يضطر إلى أن يصبح ما يريدون أن يكونه

لأنه، بكل بساطة، يحتاج إلى تلك الاحتياجات

يقرر الطفل في سن معين (تقول النظريات والأبحاث أن هذا يحدث حوالي سن الخامسة) أن يقوم بعملية تجميل لنفسه. نعم، عملية تجميل، لكي يتناسب مع الوضع المحيط به. يعدل نفسه ويكيّفها لتناسب مقاسات الآخرين: إذا أرادوه بمقاس 37، يصبح 37، وإذا أرادوه بمقاس 39، يصبح 39، وذلك للحصول على بعض الحب، وقليل من الاهتمام، وربما شيئًا من الاحترام والتقدير لذاته واحتياجاته

يقرر الطفل في هذا العمر أن لا يكون ذاته التي وُلِد بها، بل يصبح الشخص الذي يطلبونه منه. يريدونه أن يكون مطيعًا، فيصبح مطيعًا، يريدونه أن لا يقول « لا » وألا يزعجهم، فيتوقف عن قول « لا » ويصبح « مؤدبًا ». يريدونه أن لا يكون تلقائيًا، بل آلة صمّاء بكماء، فيقبل. ثم يريدونه بعد فترة أن يحفظ الدروس ويحصل على أعلى الدرجات على حساب سعادته وأوقاته المخصصة للعب والإبداع، فيفعل. ثم يريدونه لاحقًا أن يصبح الأول في الجمهورية في الثانوية العامة ويدخل كلية الطب أو الهندسة، ويحقق أحلام وطموحات أهله. وهكذا، بعد الكثير من المقاومة والصراع، ينتهي الأمر غالبًا بالاستسلام

يقرر الطفل ببساطة أن يشوه ذاته الحقيقية من أجل الآخرين، لكي يرضيهم

يقرر أن يتكيف مع الوضع القائم والواقع المفروض عليه، لكي يحمي نفسه من الأذى النفسي، وأحيانًا الأذى الجسدي

يقرر أن يدفن ذاته الحقيقية، تلك الذات الفطرية التي خلقها الله، في مكان عميق وسري، ويعيش بذات مزيفة، ذات مصطنعة، يمكنها التعامل مع العالم الخارجي

تبقى ذاته الحقيقية حيّة نابضة، لكنها كامنة، مختبئة داخله

تنتظر أن تشعر بالأمان والراحة، أن تشعر بالدفء لكي تخرج مرة أخرى وتعود إلى الحياة

فلنكن صريحين مع أنفسنا، من منا لم يتعرض لمثل هذا الموقف؟ ومن منا لم يفعل الشيء نفسه مع أولاده؟

إذا أمعنا النظر في أنفسنا، سنجد أننا غالبًا قد دفنّا جزءًا (واحدًا على الأقل) من ذواتنا الحقيقية في مرحلة من مراحل حياتنا، لأي سبب كان. البعض دفن عفويته، البعض دفن شعوره بالحرية، البعض دفن طفولته وفرحته وحيويته، البعض دفن صوته العالي وقدرته على قول « لا »، والبعض دفن بعض قدراته وإمكاناته. وفي مجتمعنا، كما في غيره، هناك من دفنت أنوثتها، وهناك من دفن رجولته

يعيش الفرد حياته كلها بذات مزيفة تطفو على السطح، بينما ذاته الحقيقية مدفونة في الأعماق

هل تحتاج إلى توضيح؟ هل تحتاج إلى أمثلة؟

لا، لن أقدم لك أمثلة

سأطلب منك أن تنظر حولك (أو على الأقل، لا تنظر إلى نفسك مباشرة)

هل تعرف الطفل الذي يتحدث بصوت منخفض وينظر إلى الأرض؟ الطفل الذي يُقال عنه « مؤدب »، الذي يطيع دون أن يعترض أو يقول « لا ». هل تعرف ماذا قد يكون دفن؟ ربما دفن طفولته الحقيقية، وتلقائيته، وحريته، وقدرته على الاعتراض والمواجهة وأخذ حقه. وخرج مكانها شخص مستسلم، مسالم، لا لون له ولا طعم ولا رائحة. (وهذا لا يعني بالطبع أن الطفل المتمرد العنيد هو الطبيعي)

هل تعرف الطالب الذي لا يعرف شيئًا سوى الدراسة، الذي هدفه الوحيد في الحياة هو الحصول على أعلى الدرجات والتفوق؟ الطالب الذي لا يلعب، لا يمزح، لا يخرج مع أصدقائه ولا يحب أن يجلس مع أحد؟ الطالب الذي علاقته بالكتب أهم من علاقته بنفسه؟ هذا الشخص ربما دفن إبداعه وحيويته، وأخرج مكانهما إنسانًا خامدًا، الشيء الوحيد الحي فيه هو ذاكرته

هل تعرف الفتاة التي تلمع مثل الذهب المزيف؟ تلك الفتاة التي تبالغ في إظهار مفاتنها وأنوثتها، تضحك هنا، تلمح هناك. هذه الفتاة ربما دفنت أنوثتها الحقيقية، التي تمتاز بالحنان والعطاء والدفء والقرب والحياء، وخرج مكانها أنوثة مزيفة مليئة بالبهرجة والسخافة والرغبة في الانتقام من الرجال

هل تعرف الرجل الذي يبدو خشنًا جدًا، الذي لا يعرف سوى الغضب والصراخ؟ الرجل الذي يستعرض قوته على الضعفاء ويفتري عليهم؟ هذا الشخص ربما دفن رجولته الحقيقية، التي تمتاز بالشهامة والشجاعة والإصرار، واستبدلها برجولة مزيفة مليئة بالغرور والاستعلاء

ثم هناك من دفن مشاعره وتحول إلى آلة لا تشعر، وهناك من دفن تفكيره وأصبح لا يفهم رغم ذكائه الفائق. وهناك من دفن إبداعه، وهناك من دفن قدراته

هل تعلم ما هو أكبر مشكلة في هذا كله؟ أكبر من عملية الدفن نفسها؟

المشكلة هي أن بعض المجتمعات (وكذلك بعض البيوت والعائلات) تشجع أبناءها على دفن هذه الأجزاء المهمة والثمينة من أنفسهم، لكي يستطيعوا العيش في هذا المجتمع. ليس فقط هذا، بل يكافئونهم عندما يفعلون ذلك. تصور!

بيوتنا الأصلية بتربيتها « العظيمة » تشجع الطفل الهادئ، المسالم، الذي يطيع دون أن يعترض أو يقول « لا »، الذي يشرب اللبن لكي ينال رضا والديه

مدارسنا الجميلة وتعليمنا الإبداعي يحبون الطالب الذي يحفظ بصمت، الذي يذاكر الكتاب المقرر من الغلاف إلى الغلاف، الذي يحل نماذج الامتحانات السابقة ويفرغ كل ما حفظه في ورقة الإجابة بمجرد أن يرى ورقة الأسئلة

وتلفازنا الرائع، وسينماتنا الخلاقة، وكليباتنا الحلوة تروج بكل إتقان لأنوثة مزيفة بكل تفاصيلها، وتقدمها في جرعات منتظمة للشباب والفتيات

وهذا كله شيء، ونظرة المجتمع للرجولة شيء آخر. « الرجولة » تعني الصوت العالي، القوة، عدم البكاء، القسوة. وبالنسبة للنساء، تعني الطاعة العمياء والخضوع والرضا بالقليل

زيف في زيف في زيف

تشويه وراء تشويه

دفن بعد دفن بعد دفن

إجرام قبل إجرام وبعد إجرام

فنون من الزيف، طبقات من التشويه، مستويات من الدفن، وأبعاد من الإجرام في حق النفس قبل حق الآخرين

لست مفسرًا للقرآن ولا شيخًا، لكننا نحتاج إلى إعادة قراءة هذه الآية من القرآن الكريم، في ضوء هذا الكلام
« وإذا الموءودة سُئلت، بأي ذنب قُتلت. »
(سورة التكوير، الآية 8 و9)

الوأد ليس فقط للفتيات في الجاهلية. الوأد هو ظاهرة إنسانية تتكرر كل يوم. كل نفس حقيقية قد تتعرض للوأد من خلال التربية القاسية. كل تلقائية أو حيوية أو طفولة أو إمكانات حقيقية قد تتعرض للوأد من خلال رفضها في الطفولة. كل أنوثة حقيقية قد تتعرض للوأد بألف طريقة، وكل رجولة حقيقية قد تتعرض للوأد بأشكال مختلفة. كل جزء من نفسك قد يتعرض للوأد

الوأد هو قتل النفس الحقيقية، دفنها

ربما كانت آية وأد الفتيات إشارة واضحة لتوضيح التشابه بين وأد النفس الحقيقية وقتل الأطفال في الجاهلية. النفس الحقيقية هي الطفل الذي يُقتل، بلا ذنب، سوى أنه لم يناسب تطلعات الآخرين

لكن ما الحل؟

إذا كانت التربية الجائرة والبيئة الضاغطة والمجتمع المشوه هي ما يدفن النفس الحقيقية، فما الذي يعيد لها الحياة؟

العلاقة

العلاقة هي ما تعيد الحياة للنفس الحقيقية

العلاقة هي الترياق السحري

العلاقة الإنسانية الحقيقية هي ما يعيد للنفس الحقيقية حقها في الوجود

العلاقة الحقيقية هي أن يحبك شخص دون قيد أو شرط، أن يحبك كما أنت. أن يقبلك بكل ما فيك، دون أن يشترط عليك شيئًا. أن يمنحك المساحة لكي تكون نفسك، دون أن تحتاج إلى تغيير ذاتك أو تجميلها. سواء كانت العلاقة علاقة صداقة، حب، زواج، أو حتى علاقة علاجية، فإنها تقدم لك مساحة للنمو، مساحة لكي تعود إلى ذاتك الحقيقية

العلاقة الحقيقية تعطيك الدفء الذي تحتاجه لكي تخرج تلك النفس التي دفنتها

العلاقة هي النور الذي ينير ظلام النفس المزيفة ويعيد الحياة إلى النفس الحقيقية

ونفسٍ وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها
(سورة الشمس، الآية 7-10)

« دساها » تعني دفنها وإخفاءها

كل ما أفعله عندما أدفن نفسي الحقيقية هو أني « أدس » نفسي، بمعنى أني أخفيها وأدفنها في مكان عميق

وكل ما أحتاجه هو علاقة تعيد لي نفسي

يا رب

لا تكلفنا إلا وُسعنا.. ولا تُحمِّلنا ما لا طاقة لنا به

واعف عنا.. واغفر لنا.. وارحمنا

أنت مولانا

 

إقرأ أيضاً

كيف اتعامل مع شخص في بداية العلاقة و اساسيات العلاقة الناجحة
كيف تبنى درع الطاقة فى 5 خطوات بسيطة
كيف أحب ذاتي : لويز هاي
كيف تقدر جسدك وتحب نفسك
كيفية تقبل الذات و إكتساب مهارات التقبل

 

د. محمد طه

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *