اللاشيء

 » اللاشيء »

جاءت لي أحد الامهات برسم لابنتها ذات الاربعة أعوام تطلب رأيي فيه
منذ ان وقعت عيني على الرسم وشعرت بانقباض في صدري
الرسمة عبارة عن الاتي
الام وجهها مشوه بالرغم من دقة البنت في رسم جميع تفاصيل وجه الام
الفم كبير بشكل ملحوظ وقد اخبرتني الام انها كثيرة الصراخ على ابنتها لأنها لا تحسن التصرف وكثيرة الحركة
الاب يقف بعيدا
ملامحه باهتة لكنها كاملة
يده كبيرتان بشكل ملحوظ وقد علمت من الام انها يضربها بقسوة
« اين البنت؟ »
سألت الام التي اشارت الى دائرة صغيرة في اخر الصفحة ويوجد بها  » شخبطة »
عندما نظرت الى تلك  » الشخبطة  » رأيت في خيالي عصفور ميت داخل قفص صغير
وصفت الطفلة ذات الاربع اعوام ما يحدث معها بدقة متناهية بعيدا عن ضغط الواقع
هذه هي الصورة التي تنطبع داخل عقول الاطفال عندما تتحول الام الى مصدر للألم ويتحول الاب الى مصدر للتهديد
فالطفل يرى العالم من خلال والديه
ويرى نفسه من خلال انعكاس تعاملهم معه
فهم مرآته لنفسه يشكلونها كيفما يشاؤوا ويضعون حجر الاساس لصورته الداخلية عن نفسه
لقد وضع الاب والام بصمتهم داخل عقل تلك الطفلة التي رأت نفسها  » لا شيء »
وضعت الطفلة تلك الدائرة حول » اللاشيء » لكي تقوم بعزل مشاعرها عن الايذاء حتى تخفف من حدة الضرر الذى سيلحق بها
انها تحافظ بالفطرة على « اللاشيء  » عسى ان تتغير تلك الصورة مستقبلا.
وسيلة عقلها للتكيف مع الالم والحد من تأثيره.
هذه الطفلة ستكون تلك الشابة التي تبدو طبيعية من الخارج لكنها تحمل بداخلها شعور مزمن ب « اللاشيء »
ستحاول ان تتفاعل مع المحيطين عسى ان ُتكون لنفسها صورة وتتحرر من ذلك السجن الذي اضطرت ان تضع مشاعرها بداخله
ستقدم كل ما تملك للأخرين حتى تشعر بالحب والقبول لكي تستطيع ان ُتكون لنفسها صورة داخلية تستطيع ان تقبلها
لا تعرف سبب تلك الرغبة في ارضاء الاخرين والحصول على القبول منهم
تبحث عمن يعطيها ذلك الذي لم تحصل عليه ابدا من والديها
صورة كائن جميل يستحق الحب……..
ولن يعطيه لها أحد ابدا!
فالحب الغير مشروط المتعلق بحب الكيان لا يتجلى الا عن طريق علاقة الرحم
لا يظهر الا كجزيء من رحمة الله التي وضعها داخل رحم الام ويشعر بها الاب الذي كان سببا في خلق تلك الحياة داخل رحم الام
فإن فقد الاب والام تلك الرحمة وتحولت العلاقة الى علاقة حب مشروط
ستظل تلك الطفلة تطارد السراب في قلوب جميع البشر حتى ينقطع نفسها من البحث وهي تظن أن بها لعنة ما تجعلها في احتياج شديد لحب لن تحصل عليه ابدا.
انها تبحث عن الحب الذي يجعلها ترى نفسها فتقبلها وتحبها فتخرج أفضل ما فيها
انها تريد من يحول تلك « الشخبطة « بداخلها الى كيان له ملامح
لكن كل من ستقابله سيعكس ما بداخلها
سيعكس « اللاشيء « وسيعطيها » اللاشيء »
يظن الاب والام انهم عندما يبدلون الحب الغير مشروط بالحب المشروط لكي يدفعوا ابنائهم للتفوق والصدارة أيا كان تعريفهم للتفوق والصدارة، انهم يحسنون صنعا ويضعونهم على اول طريق النجاح
الحقيقة انهم يضعونهم على اول طريق الخوف من الفشل!
فالفشل متعلق برفضهم لذواتهم
متعلق بالألم المصاحب لصورة « اللاشيء »
يطاردهم الفشل كما لو كان وحشا سيقوم بالقضاء عليهم
يشعروا بالراحة والطمأنينة المؤقتة عندما يصلون الى انجاز ما، ثم يستيقظ الوحش الذي سيطاردهم ثانية ليطالبهم بمزيد من الامداد حتى لا يعود لألتهامهم
وهنا تنشأ بداية التعلق بأشخاص او اشياء أو ممارسات
فعندما يجد الكائن الذي يحمل بداخله  » اللاشيء « , شيئا ما يعطيه احساس مؤقت بالراحة ويسكن ألم « اللاشيء « ، يتعلق به لأنه يحتاج دائما للإمداد المستمر حتى لا يتجدد الألم.
وعندما تتعلق صورة الشخص الذاتية بأي مصدر خارجي، يفقد الانسان التفكير المنطقي والارادة الحرة فيصير كطفل صغير يتلاعب لكي يحصل على امداده مهما كلفه الامر
طفل صغير لا يعرف معنى التأجيل والتحكم.
يؤذى نفسه والأخرين لأنه يبدو كالراشد لكنه يحمل بداخله قنبلة موقوتة تجعله مُفخخا معرضا للانفجار في أي لحظة.
فيقع في فخ تلو الاخر
يتألم ويتمزق قلبه الى ان يصل لتلك اللحظة التي يصطدم فيها بالحقيقة
ان صراعه ليس مع الاشخاص او الاشياء
انما صراعه الحقيقي هو صراعه مع « اللاشيء « بداخله الذي ينعكس على عالمه فيبدو وكأنه أكثر قسوة وجفاءا مما هو عليه بالواقع
فيتوقف عن الاصطدام بالخارج ويبحث عمن يصلح ذلك الخلل داخل نفسه
عندما يتحول » اللاشيء » الى صورة انسان له ملامح، عندما يراه أحد ما كروح تستحق الحب والقبول بغض النظر عن اخطائه وزلاته، يراه كروح تستحق الاحترام والتكريم لأنها خُلقت من روح الله فلا يوجد من يستطيع ان يطمس تلك الحقيقة بداخله، ستنحل اللعنة ويدرك الانسان انه لا ملجأ من الله الا اليه وتعود الروح الى من خلقها
سيبدأ وقتها مخاض جديد لولادة الروح لتخرج من ذلك الغشاء وتلك الدائرة الذي حفظتها حتى ترى روحه النور لأول مرة وتبدأ ولادته الحقيقية ليبدأ في حمل رسالته ليكون خليفة الله في الأرض ليخطو أولى خطواته نحو جنة النفس المطمئنة التي سرعان ما تنضمن الى جنة الخلد عندما يفنى الجسد وتعود الروح من حيث أتت
فلن يجبر كسر القلوب سوا المصدر الحقيقي اللامحدود للحب الغير مشروط
لن يجبر كسر القلب الا الله.

الارتقاء
رانيه_مصطفى_محمود

1 réflexion sur “اللاشيء”

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *